قطار

أقابله في القطار

أرتبك لأنه ينظر إليَّ

ويجلس في المقعد الشاغر بجواري،

ولأنه ينصرف عن صديقيه

ويأسلني بركاكة وهو يشير إلى الجدار ثم إلى الكمبيوتر

"ماذا نقول عن هذا؟"

وأقول "القابس؟ السلك؟"

ولأنه يبتسم ويكرر "قابس. سلك"

ثم ينظر إلي من جديد ويسأل "أنت مسلمة؟"

وأقول "نعم".

ولأن اسمه يس

نفس اسم الذي ظل أسبوعين يتودد إلي

والذي يسأل عني كل عام.

مفارقة.

تتسع ابتسامتي، وهو أيضا.

أسأل "من أين أنت؟"

فيجيب "من المغرب".

 

ولأن أختي غير الشقيقة في المغرب

أقول "أختي غير الشقيقة في المغرب"

فيميل إلى الأمام سائلا "أين"

وأضحك

"لا أذكر. شفشاون.

قرب شفشاون".

يضحك ويبدأ يعد لي المدن.

أهز راسي وأبتسم. أنا فعلا لا أذكر.

 

ولأنه يحملق في المحصلة

حين تأتي لترى تذاكرنا

يحملق فيّ ويقول "نحن معا"

وأهز رأسي مبتسمة وأقول "لسنا معا".

 

ولأننا صامتان الآن.

أحملق في حجري،

التذكرة الورقية مطوية مرات ومرات في يدي

وأسمعه يحرك رأسه أو يضطجع ليستريح.

 

ولأنني أريد أن أسمع صوته

أريد أن ينظر إليّ.

 

ولأنه ينظر إلي

ولا يحيد بنظره، ويسأل

"ماذا تدرسين؟"

وأقول "بويتري"

يقطب جبينه، ويهز رأسه

"ما هذه الكلمة؟"

وأبحث في رأسي عن الكلمة العربية

 

"شعر".

ولأن وجهه يبرق

ويزداد بريقه.

"أنت تتكلمين بالعربية"

وأضحك "لا، كَلِيلَن"

ولأنه يقرر أن يعلمني.

"هل تقرأين بها؟ وتكتبين؟"

أجيب بـ "نعم"

يزيح كوفيته

يرد خصلات شعره إلى الوراء ويقول

"هذا هو الجزء الصعب".

 

ولأن المحصلة تمر منبهة الحاجزين

"دينر؟"

وفي نعومة يقول "العَشا"

ويلتفت إلي

"تعرفين هذه الكلمة؟"

وأحسب أنها "العِشا"

ويقول لي "تهجيها"

وأنسى الهمزة وأضيف ياء.

ويقول "عين شين ألف همزة"

وأقول "آه، الهمزة، أنا لا أطيق الهمزة"

ويضحك ويقول "خلاص يا صباح

ألغينا الهمزة من هذه الكلمة".

 

ولأنني أحدق في وجهه وأحْسِن هجاءه وأرى ابتسامته الوضاءة

سوف أتعلم الكلام بالعربية

في هذا القطار المتجه إلى ميزوري.

أسأله كيف يقول "إكسكيوز مي"

ويقول "اسمح لي"

وأقول "اسمح لي"

أنا بحاجة إلى المرور، من أجل وضوء، وصلاة،

ومن أجل أن أكف عن الكلام

وأكبح نفسي.

لأنني أقف في الحمام

أراقب وجهي في المرآة

وأقول لصورتي

"كفاك. كفى"

ولكنها تستمر في الابتسام

برغم المياه

 

التي تغسلها.

ولأنني أصلي في مقعدي

وهو يميل لكي يسترني

ويناولني حينما أنتهي مصحفا له سحَّاب.

ولأنني أفتحه

وأقرأ سورة النبأ

وأنا أستريح في مقعدي

ويقول "أرجوك، بصوت أعلى"

وأنتقل إلى سورة البينة

وأرفع صوتي قليلا

وألتفت إليه لكي يسمعني.

ولأن عينيه على وجههي

ولأنني ـ وإن أكن شاخصة إلى الطباعة الخضراء

وإن يكن فمي ملآن بالكمات ـ

أعرف أن عينيه على وجهي.

وتنتهي السورة فأرفع عيني.

رموشه تغطي جفنيه

وتذكرني بأخي.

 

لأنني أشيح بعيني، وأقرأ النبأ

وأشعر به لا يزال ينظر.

أناوله المصحف كي يعيده إلى صاحبه

ولأنني حين أميل إلى الأمام

لأقول شكرا

أراه نائما

فأرجع

يس ينظر إليَّ ويقول "عفوا".

يبتسم

 

"أعرف ما كنت تريدين"

نعم كان يعرف.

ولأنه يتركني.

يطلب مني أن آخذ المقعدين

سينام هو في الصف المجاور.

تلك هي الفروسية.

يمكن أن أغمض الآن.

مغطية نفسي بسترتي

منزوية بجوار الشباك

مضطجعة في المقعد

أقول لنفسي "لا يحق لي أن أشعر بهذا"

وأستسلم للنوم وأنا أفكر

أنه لا يحق لي

وأصحو وقد علمت.

 

ولأنه لا يزال نائما خلفي.

يجثم الليل على الزجاج

وأنا أتصل بشقيقتي

وأقول إننا نتوقف الآن  في فورت ماديسن

حيث مات قطارنا آخر مرة ركبناه فيها معا إلى آمتارك

وبقي ثلاث ساعات حتى تحرك من جديد

ولأنني أقول "إن شاء الله لن نعلق هنا"

لحظة يستيقظ.

ولأنني أبقى على الهاتف

بينما ينقب في حقيبته عن الكمبيوتر

ينظر إلي ويومئ إلى العربة الأخيرة.

 

أومئ له، وأواصل محادثتي.

ولأنني أكون نائمة حينما يعود.

أصحو فأجده نعسان جنبي.

أشيح عن ارتعاشه، وأفيق.

لأن عيني تعبران على كلماتي،

كيف تحولت إليه

وأدنيت رأسي قرب رأسه كي أقرأ القرآن

وألقيت نظرة عليه، وأشحت، وعدت فنظرت.

اللهم قني شر نفسي.

 

وقبل أن نقف في المحطة

يس سيعطيني علكة.

وسأقول "أهلا بك في كنساس"

وأنا ناظرة من الشباك وظهري يواجهه.

وسيقول "سعدت بالحديث معك".

ولأننا سوف ننتظر حقائبنا

في نفس المكان،

أنا واقفة

وهو جالس

وعيناي تحومان حوله هو وأصاحبه.

 

وسأقول "سلاما" عند المخرج

ويبلعني الليلُ فسيارة شقيقتي،

وبعد وهلة أقول لها

"قابلت شبابا مغاربة في القطار.

جاءوا إلى كنساس باحثين عن عمل"

سأقول إنهم "كانوا لطفاء.

ولأنني لن أقول له اسمي

سأرى أن هذا كان أحسن

 

وستكون هذه هي الحكاية كلها

كما لو كنت لم أهتز

كما لو أنني أنا الجالسة الآن بجانب أختي

لست في القطار لم أزل

ووجهه ووجهي

استحالا نصفين

فيما الحقول والثلج تمرق علينا

والشمس في عيوننا

وكل واحد فينا يقول للآخر

"كيف تقول كذا؟

كيف تقول..."

قراءة المزيد

قصائد الأيام الماضية

قائمة الشعراء